ثار لغط، وسال حبر، وشغلت أوقات، حول بعض قرارات ومواقف حزب العدالة والبناء من قضايا تستجد على الساحة السياسية الليبية، وإن كان للقضية وجه سلبي بشغل القراء والمتتبعين عن جواهر القضايا، فإن فيه رسالة إيجابية من وجهين؛ أحدهما، وهو الأهم أن الشارع الليبي ونخبه، لم تعد تقبل التسليم للهيئات والشخصيات، بالمواقف دون شرح، وتبرير.
والثاني أن الحزب أصبح له تأثير مهم على الساحة الوطنية، وهو ما يضع على عاتقه مسؤوليات، جسيمة تجاه الوطن والمواطن.
وقد اتضح لي بعد تأمل أن بعض هذه الآراء لا يستحق الوقت الذي ينفق في قراءته، أحرى أن ينشغل العقلاء بالرد عليه، أو النقاش معه.
من هؤلاء أُناس حاولوا بكل السبل المزايدة على قيادة وأعضاءحزب العدالة والبناء في وطنيتهم والأسوأ، أنهم وصلوا إلى رميهم بالظنون في دينهم، وأمانتهم، وإن قرأتَ لهؤلاء فلاتعجب أن ناقضوا أنفسهم كل سطرين، فليس لهم، موقف.
ومنهم من كفانا عناء البحث والتأمل، وأراحنا من حيث يرى أنه يضرنا؛ بإعلانه نذر عمره لحرب “العدالة والبناء” ولا نقول له إلا ما قال الشاعر، بعد خالص الشكر على الصراحة:
يا ناطح الجبل العالي ليوهنه ** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
ليس فخراً، ولكن لأن الذين تشربوا فكر العدالة والبناء، لن يحدّهم حزب، فالحزب عندهم ليس من الثوابت، إن بقوا فيه بقوا أفاضل، وإن تخرجوا من أكاديميته خرجوا أكارم، مباركين أينما حلوا، مثل هؤلاء الثلة، لا يبالوا بإعلان حرب على الحزب، ولا بتقديم النذر، أو ذبح القرابين، فوفر قرون الغدر، أو ناطِحِ الصخرَ.
الفتوى بكفر الحزب:
بعض الأفاضل نحسن الظن بهم ونعتقد أن دوافعهم نصح، وتقويم، ونرحب بما يقولون ومنه نستفيد في تقويم ما نعتقد، وما نعمل. وقد استوقفتني في تعليقات هؤلاء الخيرين مجموعة من الأمور، بعضها يتعلق بالمواقف مجملة، وبعضها يشير إلى حوادث ومواقف تتعلق بأشخاص، أكثر من تعلقها بالحزب كهيئة، ويجمعها كلها طابع النصح الأخوي؛ “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ” .
لكن من المضحكات المبكيات الفتوى بكفر الحزب؛ فالحزب مجموعة من الأفراد يشهدون؛ أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ربطهم رابط التآخي في حب هذا الوطن، وخدمته. فإن عنى هذا المكفر الحزب كهيئة، فكلامه لا محل له، وإن عنى الأفراد، كالذي استشهد بالآية الكريمة ” إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ“، أي كفروا بعد إيمانهم والعياذ بالله، أو كالذي أفتى بوجوب ترك الحزب شرعاً، أقول هذا الموضوع ليس جديداً. وقد كان التحزب كفراً عند بعضهم، كما كان خيانة عند بعض، ولله في خلقه شؤون.
وسأحاول، مع مراعاة ما يقتضيه الأمر من الإيجاز غير المخل، أن أنوه إلى مجموعة من المبادئ التي تحكم تصرفاتنا كمسلمين، يتعاطون مع قضايا العامة، ومقتضيات انطباق هذه المبادئ على عمل حزب العدالة والبناء، ثم أصير إلى تعليق سريع على بعض القضايا الجزئية التي أثارتها التعليقات في ذهني، وليسمح لي هؤلاء الخيرون أيضا بإسداء بعض النصح معاملة بحق الأخوة، ومحاولة لرد الجميل، وإعذاراً فيما أعتقد أنه صواب، أدين الله تعالى به.
الشرع بين التفصيل والإجمال:
أغلب المتعلمين من المسلمين، واعون بأن أحكام الإسلام تنقسم إلى قسمين كبيرين تدخل تحتهما أقسام كثيرة، ويتداخلان في أقسام أخرى.
اختار الشارع، في القسم الأول التفصيل، والتدقيق، والتفريع، لثبات أغلب أحكامه، وارتباطها بحقوق الأفراد، وعادات البشر الثابتة في العيش والنحلة. أو لارتباطها بعبادات شرعها الله لحكمة يعلمها، ولم يخضعها لمنطق العِلِّيَّةِ لعدم حاجتها إليه، وربما يكون من صميم التعبد بها؛ جهل جُل مقاصدها، أو كلها.
وعامل الشارع، كما هو معروف، القسم الثاني معاملة مغايرة، إن لم تكن معاكسة تماما؛ فاختار الإجمال، وترك التقييد، وفتح أمام المسلمين باباً واسعاً للاجتهاد، ومندوحة رحبة في التصرف، بشرط ضابط واحد هو اعتقاد المتصرفين، وفق المعطيات المتاحة لهم، رجحان جلب مصلحة، أو درء مفسدة.
ودرج العلماء الأصوليون في القديم على تقديم درء المفسدة، وإن كان بعض أهل العلم لا يرى لزوم ذلك. (الريسوني/ فقه الثورة).
المصلحة تدبير بشري:
النظرة إلى إدارة شؤون الحياة العامة على أنه تدبير بشري هو الذي يفسر وقائع تعامل النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته وخلفائه مع أمور الحكم.
لهذا خالف الخلفاء الراشدون عمل النبي صلى الله عليه وسلم في بعض القضايا، واختلفوا فيما بينهم في تقدير بعض القضايا، وعملوا بأمور ثم رجعوا عنها. بل إنهم خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرأي في قضايا وهو بين ظهرانيهم، ونزل عند رأيهم، واعتبر المصلحة تدبيراً بشرياً، سبق إليه من ليس مؤيداً بالوحي من هو مؤيد به.
كما في قصة رأي الحباب بن المنذر رضي الله عنه، في النزول ببدر، وخروجه عليه الصلاة والسلام إلى أحد، رغم يقينه، بأن المصلحة تقتضي البقاء في المدينة، والتحصن بها، بل رغم رؤياه الصريحة، وهي وحي، لأن “رؤيا الأنبياء وحي” كما في الصحيح، ولكن الواضح أن الرؤيا كانت خبراً بغيب لا أمرٌ بأمرٍ.
وكما في قصة رفض سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، رضي الله عنهما، الصلح مع غطفان على نصف ثمار المدينة، على أن ينقضوا التحالف مع قريش وبني قريظة في الأحزاب. قد قال السعدان لرسول الله صلى الله عليه وسلم،، بعد أن أبرم الصلح وكتب الكتاب، ولم يبق إلا الإشهاد: “يا رسول الله، أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به، لا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال : بل شيء أصنعه لكم. ، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، ” فرفضا الصلح، فألغاه صلى الله عليه وسلم.
وكما في إلغاء عمر العمل بتقسيم أراضي الفتوح، وإبطاله سهم المؤلفة قلوبهم في الغنائم، رغم وضوح النص القرآني في ذلك، وتعليقه حد السرقة عام الرمادة.
وفي بعض القصص نزل القرآن يؤيد رأيا غير الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، كما في قصة أسرى بدر، ورأي عمر بقتلهم، ورفق النبي عليه الصلاة والسلام، ونزوله عند رأي أبي بكر بعدم القتل. لكن القرآن لما نزل كان صريحا إلى جانب عمر؛ فقال الله تعالى: “لو لا كتاب من الله سبق لمسكم في أخذتم فيه عذاب عظيم”. وقال صلى الله عليه وسلم “لا ينجو منه إلا ابن الخطاب”. لمعارضته فداء الأسرى.
إن الضابط الذي يجمع كل هذه الأمثلة، هو أن الشارع لحكمة أرادها، ترك هذا المجال لتدبير عقول المسلمين، علماً منه، جل وعلا، أنه مرتبط بأحوال متغيرة، لاتنضبط لقواعد صارمة، ولا تخضع لقوانين تفصيلية ثابتة. وهذا لعمري أحد أسرار خلود هذه الشريعة الخاتمة، ومظهر من مظاهر سماحة الحنيفية التي تركنا عليها صلى الله عليه وسلم “ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك”.
منزلق إلباس التصرفات السياسية لبوس العقيدة:
المقدمة أعلاه ضرورية لفهم منطلقات، وأسس كثير من قرارات حزب العدالة والبناء، وخلفيات تصرفات كثير من المشتغلين بالشأن العام من أجيال الأمة الحالية.
إن أحد أدواء الأمة اليوم في عقول صيغت بمنطق تلقيني، لا يضع فارقاً بين القاعدة الشرعية، المقررة على أساس نص شرعي قطعي الورود قطعي الدلالة، وبين تاريخ وقائع الفقه الإسلامي، واجتهادات خضعت لسياقات واقعية تاريخية محددة.
إن العمل السياسي، وممارسة الشأن العام، كان وما زال نظراً مصلحياً محضاً، تجتهد فيه الخبرات المؤمنة المنضبطة بضوابط الشرع، الواعية بواقع الحوادث، المستوعبة لفلسفة التاريخ، الفاهمة لقوانين الاجتماع البشري.
إن التعاطي مع الشأن السياسي بهذا المنطق، يضع الأمور في سياقها الصحيح شرعاً وواقعاً، ويجنب منزلق إلباس التصرفات السياسية لبوس العقيدة، وإسقاط مصطلحات شرعية، وإقرار أحكام، في غير محلها، ولا توفرت شروط القياس فيها. وهو الخلاف الذي نعاني منه اليوم حينما تصاغ الأمور السياسية بلغة العقيدة لا بلغة السياسة، على عادة العقل السلفي في صياغة الأمور العملية صياغة اعتقادية. (د. محمد بن المختار الشنقيطي؛ الفقه الإمبراطوري والدولة العقارية المعاصرة).
الإنصاف في النظر إلى أقوال الرجال:
إن أصل الأصول في هذا الباب، أن ينظر إلى كل قرار أو موقف على أنه تقدير مصلحي قائم على قراءة معطيات اللحظة التاريخية، وسياق الأحداث، وقصارى ما سيخلص إليه في شأنه هو أنه رأي صواب يحتمل الخطأ عند من قال به، وخطأ يحتمل الصواب عند من وقف ضده، أو اختار غيره، كما سطر الإمام الشافعي رحمه الله في قاعدته الذهبية في الإنصاف في النظر إلى أقوال الرجال.
وسيظل لكل موقف حظ من الصواب، وحظ من الخطأ، والمطوب ممن يرى رأياً، أو يقول بقول، أن يستفرغ جهده في تنقيح مناطه، ويتأتى ذلك بتمحيص الوقائع، والتدقيق في المعلومات والتثبت في المواقف. وسيجزي الله الناس على نياتهم، ولن يظلم عنده أحد، ولن يتركم أعمالكم.
أما احتكار الصواب، وامتلاك الحقيقة، وادعاء التفرد برؤية المصلحة الوطنية، فهي بَوار من القول، وجهل وازدراء بالناس يربأ العاقل بنفسه أن يركبه. ولم يكن حزب العدالة والبناء ولا الأشخاص فيه مدعين لهذا الأمر، ولا في وارد خطابهم ادعاؤه، أو الاقتراب من ذلك.
مفهوم ولي الأمر:
وأما الحديث عن ولاة أمر يجب الرجوع إليهم، أو إرجاع القضايا لأحكامهم، فهو إسقاط آخر في غير محله، ولا له من الصواب نصيب.
إن مفهوم ولي الأمر الذي يبايعه الناس عن رضى منهم، وتجب عليهم طاعته بمقتضى عقد البيعة، على ما قيل فيه قديماً وحديثاً، ليس له محل في الحالة الليبية؛ فولي الأمر بحكم ما اتفق عليه الليبيون في عقدهم العام الرابط بينهم، المترجم في الإعلان الدستوري، هو الهيئة التي تسمى المؤتمر الوطني العام، قبل الإنقسام.
عندما تكون هذه الهيئة بكامل أعضائها وغير معطلة، ولا مصادرة لإرادة أعضائها، وغير مانعة لهم من حقهم الشوري، ولا مميع لجلساتهم من أجل منع التوصل إلى قرارات بالأغلبية، هي الهيئة التي من الممكن أن تكتسب صفة ولي الأمر،على ما قيل فيه. أما غير ذلك فينفي هذه الصفة جملة وتفصيلاً، ويخالف العقد الاجتماعي الذي اكتسب المؤتمر على أساسه صفة ولي الأمر. ناهيك عن أن الانقسام أنتج سلطة واقع لها أحكامها، نتيجة الأزمة والانقسام الحاد الذي تعيشه البلاد.
المؤتمر الوطني العام شخصية معنوية، لا تنعقد لها الولاية إلا فيما يصدر عنها بهذه الصفة؛ أي بما تخرجه من قرارات بعد مداولاتها المنظمة، وليس لشخص رئيسها ولا لمجموعة فيه امتلاك هذه الصفة، ولا إصدار الأوامر والقرارات بها، وأما في حالات التفويض فلا يسري إلا في حدوده ووفْقِه.
فهناك فرق شاسع بين أن يجب علي تنفيذ قراراتك، وأوامرك لكونك سلطة شرعية، وبين أن يجب علي الاقتناع برأيك، أو تصديق حديثك.
وما تقع فيه المعارضة في النظم الديمقراطية ليس من باب عصيان الأوامر، ولكنه من باب معارضة الآراء والنضال السلمي من أجل تحقيق الأفضل للأوطان، وترسيخ التدافع الذي به قوام حياة الناس، وعمارة الأرض، “ولو لا دفع الله الناس بعضهم لفسدت الأرض”.
ولن يرتبط الحق بشخص مهما علا في العلم كعبه، أو رجحت في النفوس زكاوة قوله، فهو بشر يؤخذ من قوله، ويرد.
أقول ما قلته سابقاً؛ حزب العدالة والبناء مؤسسة سياسية، وليس جماعة دينية، فهو يحمل قيم الإسلام وهمه. الأحزاب مثلها مثل أي مؤسسة؛ تنمو وقد تضعف، تتجدد وقد تزول. الحزب ينضم إليه أعضاء ويستقيل منه أخرون. مواقف الحزب تُحالف الصواب أحياناً وتخطئه أحياناً أخرى، الأحزاب تطور مواقفها وقد تقلبها رأساً على عقب، تبني تحالفات وتفك أخرى، كل ذلك متعلق بالفعل السياسي المنضبط بما يحمله الحزب من قيم.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
التدوينة حزب العدالة والبناء…تهافت الخصوم (2/2) ظهرت أولاً على صحيفة عين ليبيا.
تابعوا جميع اخر اخبار ليبيا و اخبار ليبيا اليوم
0 التعليقات:
إرسال تعليق