هنا صوتك
هرب أسد البوسكو أثناء القصف. قبل القصف كانت حياته عادية كأي “حميده” عادي، ينام ويأكل ويقوم بالعمليات البيولوجية المترتبة عن ذلك ويشعر بالملل، يلتهم يومياً أربع دجاجات بلا سيقان ويتعب من عمله القليل، كثيراً جداً، يخرج للزوار كي يتفرجوا عليه ويتفرج عليهم، يتثاءب في وجوههم حتى يروا أنيابه المفترسه ويشموا رائحة فمه العفنه، ويشم هو الأخر روائحهم(تبادل ثقافي) ويأتيه الطبيب دون أن يتجشم عناء الطوابير والمواعيد وفواتير العيادات، وتهتم وزارة الكهرباء بإرسال الضوء إليه دون أن تقطعه مرة كما تفعل معنا، تلبية لمكر، وتلتزم إدارة البوسكو بتوفير شريكة لحياته، السعيدة قطعاً في بنغازي.
إنه ملك حقيقي وليس بحاجة بعد ذلك إلى غابة!
عندما ترك جنته وهرب، هرب الذين كانوا في طابور البنزين منذ أيام ما أن بلغهم النبأ، هرب أناس لا نعرفهم إلي بيتنا وكنا نريد أن نهرب نحن أيضا إلى من نجدهم في طريقنا وحسب، هرب الذين في طابور الخبز، تاركين طابورا من القفاف، أغلق الفران المخبز وعلق لوحة مغلق للصلاة، بلل سرواله، قرأ قل أعوذ برب الناس وكان يقصد أن يقرأ الفاتحة، ربض حاملاً مغرفة الخبز الساخنة لمواجهة الخطر الداهم، قال في نفسه: مش مشكلة الفاتحة أول الكتاب والناس آخره، المهم النية.
مر الأسد مستعجلاً أو أحد “المشفشفين” فضربه الفران بعصا الفرن الطويلة، ثم أغمى عليه لظنه أنه أصاب الأسد فعلاً، رفض الطبيب إعادته للوعي كيلا نتكبل في بطولته قرناً، يحملنا فيه معروف إنقاذنا من الفك المفترس، فهو لن يصدق أنه دخل الغيبوبة بسبب “واحد مشفشف” وسيتهمنا بتزييف الحقائق في غيبوبته، ولن يكتفي بحماية الصالحين فيطلب حماية الدوليين!
قال الطبيب إن صحوته من عدمها ليست مشكلة، فالفرق بين الغيبوبة والحياة هنا، لا فرق.
كان الجميع يهرب في الوقت نفسه، وربما كان من الأفضل لهم ألا يهربوا من شيء هارب، كيلا يلتقوه، امنحوه الطريق ولا تضيقوها بوجهه، فاحتمال لقائكم به يشتد كلما هربتم منه، إذ تغدو عملية الفرار في الاتجاهين، مجرد لقاء غير عاطفي لكنه مدبر جداً.
كلما هربت منك وهربت مني سنلتقي بأسرع مما كنا عليه من قبل (قانون الجاذبية العكسية، اللي تكرهه يتحقق)… ورغم شدة قانون الجاذبية العكسية وسريانه أكثر من القانون الوضعي، فالناس في بلادي خارقون أكثر من أي قانون ومن أي عكس، يملكون صنع عشرة أشياء في لحظة واحدة وفي أيديهم عصا وقفه، دون أن يفقدوا ميزة القص، خلال صناعة الخبز أو انتظاره أو أكله، وقراءة القرآن، والتبول في السروال، والترحم على الشهداء والبزنسة بهم، واتخاذ وضعية الدفاع ب”مرتكة” ودخول الغيبوبة ومع ذلك المشاركة في صناعة الأحداث.
لا ريب بأن أسد البوسكو الهارب، لا يملك إحدى تلك الخصائص الفريدة، ولا يستطيع حتى المنافسة عليها، فلا أدري لماذا هو الأسد حتى الآن وهم لا؟
شهداء المدرسة… شهداء الأسد:
يحكي أحد القادمين من الغيبوبة، أن الأسد مر من شارعنا ودخل إلى بيتنا، وكان البيت صبوراً رحيما رؤوفاً حليماً، امتلأ حتى سقفه بالنازحين دون أن ينفتق عند جهتي الحمام والمطبخ، وكانت أمامه كل مستويات اللحم “شارف وصغير” لو أنه أراد الفتك وحسب، لكنه لم يجد أحداً صالحاً للهضم، ففي اللحظة التي توقعوا فيها هجومه، حرك ذيله ورأسه بسرعة نحو البدروم، لم يفهم أحداً أنه يرسل مسجا تحذيريا بالخطر القادم، وإلا لهز رأسه وأخبره أن البدروم معبأ أيضا ولا يوجد به فراغ، لكن ما من أحد يفهم أساساً، فالجميع مستغرق في سوء الظن، إلى أن نفذ الوقت وهجمت قذائف عشوائية، حطمت طوابق من مدرسة قريبة، يقيم بها نازحو أحياء أخرى منذ عام ، انتظر الأسد أن ينتهي الجميع من شكر الله لأن القذيفة تخطتهم وأصابت المدرسة المصابة من قبل مرتين، وأن يخرج جماعة البدروم ليهنئوا جماعة سطح المنزل على السلامة ويمسحوا عن وجوههم الغبار، ثم يتوجهوا جميعاً لانتشال جثث سكان الفصول الدراسية من ضحايا القصف العشوائي.
كان الأسد رحيماً، إذ انتظرهم كي يفرغوا، ليتجه من بعد لخزانة الثياب ويأخذ بين فكيه أخر فستان ارتديته في ليبيا، يقول الشاهد كان في إحدى عينيه دمعة و بالأخرى عرق… ربما تكون عيني الشاهد وليست عيني الأسد!. يقول شاهد عن الشاهد. ويقول ظني، إن بعض الظن إثم لكن بعضه الآخر لا!
لقد أساؤوا فهمه، فليس صحيحاً إنه كلما هرب أسد، كان مقصده البحث عن فريسة، إنه ليس بهيماً إلى ذلك الحد ليأكل المتردية والنطيحة، إن أحداً لا يريد أن يتذكر إنه يجوع ولا يأكل الجيف، وهو مواطن ليبي أكثر أصالة من الليبيين أنفسهم، عرف ليبيا وسكنها قبلهم ويحسن به العودة لتصدرها من جديد، بعدما تصدرتها أسود مزيفه، فرغتها من الحياة ووضعتها على حافة الانقراض.
إن أحداً لا يقدر حجم التأمر عليه في كتاب التاريخ، ُطمس وجوده الأسبق لوجود الأمازيغ والرومان و المسلمين والعرب في ليبيا، ورغم ذلك فإن جد أمه لم يتلف خلايانا الدماغية بزئيره، وادعائه الملكية التامة لليبيا، كما يدعيها كل عرق من الليبيين لنفسه اليوم.
مضت حياته متواضعة، يأكل الدجاج بلا سيقان ويتثاءب، وأحيانا يقدمون له لحم الحمير فلا يستحمر، حتى نفذ العملية النوعية اليوم في المدينة، وهي عملية جديرة بالتحليل والتمحيص السياسي، ويجب تسليط الضوء عليها عندما يعود، ففرض هدنه إجبارية على تيوس تتقاتل لقيادة قطيع، ليست عملاً رعوياً هيناً.
في بنغازي الثرية بالقصف والخيلاء، قيل أن الأسد التهم شخصاً لم يتعرف إليه أحد أو لم يرغب أحد في معرفته ولم يبلغ أحد عن فقدانه، وليس له أهل كسائر البنغازينو أولاد البلاد، هو لقيط من لقطاء كثر ربتهم المدينة ولم يكن لهم شجرة عائلة أو حتى “قروش” ينتمون إليه، ببساطة لأنهم جاؤوها من البعيد، لذلك من غير القابل للجدل ألا يتمكن أحد من التعرف إليه كإنسان، طالما لم يكشف عن مكان قبر جده الحادي عشر أين، وهل مات بالزحار أم استشهد في إحدى معارك البوخوصة!
وهذا اللقيط الذي أكله أسد البوسكو اليوم، ضروري للحياة البنغازية، لتجرعه مع شاي الغداء، لتدويره مع الأحاديث ، لمنحه الدور السلبي في تاريخهم العظيم، وهو مهم “ليتنخم “الجميع عليه قبل القيام لصلاة الجنازة…. حقاً إن الأسد رزاهم فيه ولا أعرف كيف ستمضي حياتهم بدونه؟
هذا الشخص المبني أبداً للمجهول، هو الذي لا شهره تذيل اسمه، ذايح من ذوايح ليبيا، وليس مثلنا نحن الذين أصولنا معروفة في درب التبانه، إن فقدانه لا يثير شفقة أحد، حتى ولا شفقتي، فيستاهلها كلاه أسد البوسكو، بل أن أسد البوسكو لم يخرجه من قفصه إلا دعاء الصالحين للقيام بهذه المهمة النبيلة، التي عجزت عنها أقوى التكوينات العرقية في المدينة، تطهيراً لبنغازي ممن أتاها للعيش، وكان قادراً على إحيائها أكثر ممن سبقه إليها وتملكته الغيرة والعجز، حتى هذا يستاهلها لو أن أسد البوسكو الشجاع أكله وحرق له بيته… سيخلو لنا وجه المدينة، لعلنا نزرع بها شجرة أو ندفع عنها قمامة!
أخي الأسد:
لا أريد منحك خارطة طريق جاهزة، فأنا لا أملكها حتى لنفسي، ليس أكثر من نصيحة لفرار ناجح، إذا كنت محظوظا وهربت من بنغازي، واصل الهرب، لأن بعض أخلاط المدينة ممن يتطرفون في ملكيتها لهم وحدهم، سيسمونك بكل عيب، لمجرد أنك تضرب في الأرض وتسير في مناكبها، أضفت إليه اليوم عيبا أخر بهروبك الجبان، فلا تعتمد على عقل رشيد بينهم يقل لهم، وما العيب في ذلك أيها الراسخون في التراب، إن عيسي بن مريم لم يكن له أب ولا قبيلة يسند ظهرها و تقوس ظهره، لكنه اُصطفى نبياً لشعوب وقبائل، كما صار يوسف الذليل في أرضه عزيزاً خارجها وفي غير موطنه، بل أن الإنسان وصل للأرض التي تدعون ملكيتها من عالم آخر، قطعاً، ليس ليحتمل شؤم العيش معكم، بل ليحييها، فأنتم لم يثبت لكم وجود في اتفاق الخلافة عندما أبرمه الله مع مخلوقاته… إن الأمر لن ينتهي بمغادرة بنغازي، فليبيا كلها تشبه بعضها وتتنافس مع ظلامها.
إياك أخي والذهاب لوسط ليبيا الساحلي، فداعش ستكون من أمامك وأسود مصراته وراءك وراءك، وإياك وطرابلس كذلك، فأنت فيها مجرد عائد من الشرق، سيقول لك المثقفون من أهلها، ممن ولدوا بمؤخرات مختوم عليها “طرابلسي أصلي” اترك لنا مدينتا المتمدنة الجميلة فقد وسختها وأكثرت بها الزحام وجلبت ثقافتك البدائية معك ونشرت فيها ” الحشن” ارجع لقريتك ولا تتملقنا وتكثر من التزلف، رغبة في منصب ليس شاغراً إلا لنا أيها الحقود الحسود الغيور، دفعة من اتهام الذات بالتمدن واتهام الآخرين بالتوحش، سوف تستغربها ثم تتشابه عليك المؤخرات، فلا تتورط في الذهاب ما لم تتطلب معاملة هروبك ذلك.
ثم إياك أن تتجه إلى طبرق، فإن بها برلمان غير شرعي، أعني حرام انتخبه الشعب الحرايمي، ليس له من عمل سوى إثبات ضعف المشروع في بلادنا أمام اللا مشروع من أي نوع كان.
وعن أحد أجدادنا القدماء في اجخره أنه قال: اللي مالها كرعين (أرجل) ما تصبي، لكنه إن رأى ما رأت طبرق من عجائب الكرعين لقال : حتى وإن كان لها ستون رجلا، فهي دون عقل لن تمشي!
وعلى كل حال بكرعين أو بدونه، فإن عدم الفرار إلى طبرق يجنبك إلزامية المرور بجسرها الشهير، الذي إن مررت من فوقه تسقط وإن مررت من تحته يسقط أحدهم عليك، فلا تغامر إلا بعد خمسمائة عام من التنمية.
إياك كذلك وامساعد، سيهربونك لمصر شئت أم أبيت مع قلالين البوطاس والخبز اليابس، وقد يبيعونك لداعش درنة، فرأسك ليست أية رأس، وهكذا تعود لليبيا في القيود بعد أن تحررت ولم تحرر الوطن!
ثم إياك من التوجه لربوع الأمازيغ، فأنت فيها أسد عربي دخيل متخلف تهدد حضارتهم الممتدة في البنيان وتغزو عمرانهم الذي طاول السماء وتمحو علومهم التي رفعت ليبيا إلى مصاف التقدم، بل تتزعم أخطر عصابة عرفتها المجرة، لتهريب وقود ليبيا وبنزينها، وتتاجر بالبشر الذين يتحولون في البحر إلى سردين، دون أن تتحرك من “غفتك” شعره.
لا أحد سيثق بك وبنواياك هناك أياً كانت اللغة التي تخاطب بها ليبيتهم، عربية أو موق موق أو تيفيناغ، فنظرية المؤامرة العربية عليهم فعالة، لا ينفذ شحنها، حذاري ثم حذاري من الوقوع بين أيدي الناشطات منهم على وجه الخصوص، ياويلتاه سيخضعنك للتفتيش والتحقيق وتحليل DNA لإثبات عراقتك، (تعني العراقة لديهن ألا تكون ملوثاً بالدم العربي، ثم تلوث بما شئت) فلا تعتقد أن الأمر سهل معهن، كما كان مع سلوى بوقعيقيص في بنغازي أو امدلله في طبرق أو فريحة البركاوي في درنة أو نصيب كرنافه في سبها أو زينب الزايدي في مطار الأبرق!
ثم إياك ودرنة، فإنها غابة من الدواعش، يحني ملكها شعره الأشعث ويختفي في الجبال لينجب الخلفاء، ويطور أساليب جزارة يقطع بها في دقائق، من استغرق الله تسعة أشهر في خلقه!
إياك أن تثق حتى بجلدك هناك وبقدرتك على النفاذ به، فكم هو مغرٍ جلدك لرجل يعيش في الكهوف، ويرمي العالم بالطوب الذي يمسح به مؤخرته… استفد من درس الصحابة وآل الحرير يرحمك الله، فما من طوبة تصيبك إلا من عنده وليست من عند الله… ثم إياك وقريتي، فإنها والله كون أخر مفصول، تصبح جميلة وهي غير ذلك إذا تورطت في عشرتها، ففيها عجاج وقبلي يعمي الأبصار، وسيارة إسعاف واحدة، يحدث الذي يحدث ولا تأتي… ثم إياك والمدن الأثرية في ليبيا، فهي أطلال خالية إلا من البراز الطري في الأوقات العادية ومستهدفة بقواذف داعش في الأوقات الداعشية.
تجنب ما استطعت مصير أسد شحات العريق، الذي هربوا رأسه لجهة ما، ووضعوا ساقه في الأسمنت، فهل يروقك أن تصبح أسداً دون رأس، ونصفه خرسانة محفور عليها بعض الذكريات؟… ثم إياك والجنوب، فأنت ستعامل بحفاوة لا نظير لها، كما تشتعل الحرب ببساطة لا نظير لها، ويجري تلطيفها بتسميتها “خلاف عائلي” مع أنها حرب عالمية تشارك فيها الدول العظمى كبلدان مصنعة لأسلحتها وعملائها، حاول التمسك بصفة الضيف والتنصل من العلاقات العائلية، كيلا تجد نفسك مستهدفاً.
احرص خلال التبادل العائلي أن تفوتك القذائف وألا يفوتك “الفتات”… ثم إياك من خطر يظهر بلا توقيت في الفضاء، لا يفرق عن الصحن الفضائي الذي زار بلدة العجيلات، وسرق منها أضواء قطع التابعة، إنه سلاح الجو الليبي، يطير حتى دون ضوء، ويصرح قائده عن الأهداف التي سيضربها قبل أن يضربها، ما لم تستمع لنشرة الضرب اليومية، منه شخصياً في التلفزيون، لن يمكنك تحديد المكان الذي ستهرب إليه كما يفعل الدواعش، فاستمع ثم توكل على الحي القيوم واهرب!… ثم إياك من ومن ومن، من البحر القادر على قلب نواتك في يوم، من أسد إلى سمك!… ومن جهنم الشقيقة (تونس ومصر وما شابهما من جوار) فالعناء نفسه سيحدث وبوقع أشد، لأنك ليبي، ملعون تلك البلاد الملعونة بك وبالبترول.
أخي الأسد، إذا تحصنت بالسبع المنجيات واستطعت أن تنجو- كما قلة من الليبيين-واصل الهرب نفسياً أرجوك و ” اصبر ع الشدايد- هك الله رايد – ماتعلم بغيب” فأنت حقاً شجاع ونبيل، ليس لأنك تملك عدة افتراس طبيعية لم تستخدمها قط معنا، بل لأنك استطعت العيش معنا سنوات طويلة دون أن يتخلل سجلك أية سوابق.
أختي عتيقة، دعي أسد البوسكو وشأنه، أعني ردي القفطان اللي خديتيه.
التدوينة أين تهرب هذا المساء؟ ظهرت أولاً على صحيفة عين ليبيا.
تابعوا جميع اخبار ليبيا و اخبار ليبيا اليوم
0 التعليقات:
إرسال تعليق