ليبيا الان

السبت، 25 يوليو 2015

“البرّادة”!! …قصة واقعية من رحم الواقع

مع الساعة الواحدة ليلا من احدى الليالي العشر الاخيرة من شهر رمضان 2015 ، فاجأني مغص كلوي شديد ، فلا اشد من ألآم المغص الكلوي وخاصة الناتجة عن حصوات الكلي العنيدة! غير أنه توجد علاقة وطيدة بيني وبينه اذ عادة ما ينتابني بين فترة وأخرى لأكثر من ثلاثين سنة ، فقد تعودت عليه وخبرت اوجاعه ومنغصاته ما رتب عليّ صبرا اجباريا وتحملا ! ولا اخفي انه في المرة الاولى التي زارني فيها المغص الكلوي سنة 1984 كنت توقعت انه الموت المحقق ولا جدال! فلم تترك شدة الالم متسعا للأمل في الحياة من جديد ! غير أن تأثير حقنة وريدية مسكنة قلب الموقف رأسا على عقب حيث فجأة توقف الالم ووجدت نفسي معافى كما لم ينتابني اصلا! كان ذلك في السكن الداخلي بالجامعة في طرابلس!

خبرتي مع المغص الكلوي نجعلني امارس بعض الحركات التي تبدو غريبة عند الاصحاء بقصد التقليل من شدته منها المشي والقفز والتأوه بصوت يعلو وينخفض! لذلك كنت افضل تركي وحيدا في الغرفة لأمارس تلك الهواية القسرية! نعم التجربة جعلتني اكتشف ان بعض الحركات تساعد في تحرك الحصوات! ولقد خبرت ايضا لحظة وصول الحصاة الى المثانة من خلال وخزة شديدة في مجرى البول! وكم اتوق لتلك الوخزة رغم شدتها كونها الفاصلة بين شدة الالم واختفائه ، اذ بحدوثها اشعر براحة واسترخاء لا يمكن تصوره تؤدي مباشرة لاستغراقي في نوم عميق بعد معاناة ومجاهدة وسهر اذ العادة ان يأتي المغص في ساعات متأخرة من الليل!.

مرت الساعة الاولى والثانية والثالثة ولم يحدث تحسن بل كان الالم يزداد شدة واثناء السحور كم تمنيت ان اشرب ماء بحجم بحيرة تشاد !، لكن من مفارقات المغص الكلوي حين يشتد عدم القدرة حتى على شرب الماء والتقيوء! يا الهي فانا الان صائم وأمامي اكثر من 16 عشرة ساعة يا للمعاناة ويا لشدة الالم! رأيت أن اغالب نفسي واحتمل الالم راجيا تلك الحصاة العنيدة ان تغادر كليتي!  لكنها تزداد عنادا وتمسكا ببقائها في خدرها ما يعني مزيد الالم والمعاناة ..لا مجال للنوم طبعا وقضيت تلك الساعات التي تسبق الصباح بين انين وتوجع وعندما كانت الساعة الثامنة غلبني المغص فأجبرني للذهاب للطبيب ا.. رافقني ابني احمد وانطلقنا بالسيارة الى مستشفى مزده الساعة الان حوالي الثامنة والنصف صباحا الحركة تكاد تكون معدومة تماما ، دخلنا قسم الطوارئ فلم نجد الاطباء الا ممرضتين اجنبتين! توجهنا نحو الاستعلامات فوجدنا مناوبا افادنا بانه لا يوجد طبيب المسالك فقد قفل راجعا الى بلده اكرانيا منذ حوالي شهر! ، انتظرنا حوالي نصف ساعة ثم قررنا الذهاب الى غريان.

رأينا اولا الذهاب الى العيادة المجمعة بغريان وحوالي الساعة العاشرة والربع كنا امام استعلامات العيادة الذين افادونا بعدم وجود طبيب للمسالك هذا اليوم ! فانطلقنا نحو مستشفى غريان فهو الملاذ الاخير! ..في قسم الاسعاف السريع افادونا بعدم وجود اطباء – الساعة الآن حوالي العاشرة والنصف صباحا – لا مفر من الانتظار اذا! وصرنا نكرر السؤال عن الطبيب بين حين وأخر – حال مريض بالمغص الكلوي!-  بعد حوالي ساعة وجدنا من يدلنا الى الذهاب الى قسم العيادات الخارجية خلف مبنى المستشفى ، دخلنا القسم  واذا به خالي تماما من الحركة ! غرف على اليمين واليسار وعند نهاية الممر بزغ علينا قمرنا المقصود! انه احد الاطباء الاجانب من اكرانيا! ، بادرنا سائلا  ما خطبكم؟! فأجبت …مغص كلوي ..مغص كلوي يا دكتور.. اشار علي بالذهاب الى غرفة للمعاينة ثم لحقني وأجرى اللازم وقدم لي وصفة دوائية وهي عبارة عن حقنة لتسكين الالم عاجلة ، ووصفة اخرى دوائية وشدد على ضرورة الفحص بالجهاز المخصص والذي لم يكن متوفرا بالمستشفى وطلب مني المجيء الى عيادة خارجية بعد العاشرة ليلا!

بعد اخذ الحقنة العضلية غادرت قاصدا – على نية الله –  اي عيادة خاصة تعمل نهارا فالغالب العيادات الخاصة تعمل فقط في الفترات المسائية ، فمابالك في رمضان! لكن عكس ما توقعت وجدت بعضا منها مفتوح فترجلت إليها سائلا عن طبيب المسالك وكانت الاجابة نعم يوجد لكنه يأتي فقط بعد الافطار! يبدو انه لا مناص من العودة الليلية! ، غير اني من باب الفضول توجهت الى عيادة اخرى كنت اتردد على احد اطبائها وحين اقتربت منها لمحت بابها مفتوحا ! يا الله ..مفتوحة.. مفتوحة.. رددت في خاطري! ثم ترجلت وانطلقت صوب الاستعلامات سائلا عن الطبيب فلان! فقيل لي نعم موجود فقط نصف ساعة وتكون امامه! الحقيقة كانت اجابة غير متوقعة! وكذلك فرحة غير متوقعة! وبسرعة غير متوقعة وجدت نفسي ادفع للمرضة ثمن ايصال الفحص ! ناولتني الموظفة الايصال وكان رقمي (6) !

دخلت غرفة الانتظار ووجدت بعض المنتظرين مثلي كان فيها جهاز تكييف لكنه متوقف كان الجو ساخنا حارا بالنسبة لي لا احبذ تشغيل المكيفات والامر عندي سيان! لكن احد المنتظرين لم يعجبه الحال فتسائل عن تشغيل المكيف ثم ذهب ليخبر الموظفة بالأمر جاءت معه وفي يدها جهاز التحكم وشغلت المكيف ! دار حديث ذو شجون بين الحضور طبعا كله على الوضع الصعب الذي تعيشه البلد وخاصة في قطاع الصحة ، الحقيقة الكل ممتعض جدا ومستاء من مآلات الامور الحرجة! بعد حوالي نصف ساعة تقريبا نودي باسمي فقد حان موعد مقابلتي! تقدمت نحو غرفة المعاينة واستلقيت على السرير وتفحصني الطبيب بعد ان شرحت له بإيجاز ما احس به ثم طلب مني التحول الى غرفة اخرى حيث جهاز التشخيص واجري اللازم حيث تبين وجود حصاة في حوض الكلية اليسرى وما يرافقها من التهابات في المجاري البولية. قدم لي الوصفة الطبية التي احتوت على خمسة انواع من الادوية ثم شدد على ضرورة شرب الماء بكميات كبيرة وكذلك السوائل للتسريع في انزال الحصاة وتمنى لي الشفاء.

بادلته نفس المشاعر ودخلت الصيدلية التي في نفس العيادة وناولني الصيدلي كل الدواء المطلوب ! ها الحمد لله قد تسخّرت لي الامور في ظرف اقل من ساعة بعد ماكانت تتصعب امامي في بداية رحلتي مع هذا المغص الكلوي! انطلقت بنا السيارة رفقة ابني احمد عائدين الى مزده كانت الساعة حوالي الواحدة ظهرا في منتصف الطريق وتحديدا عند بوابة على طريق غريان مزده تسمى (بوابة القضامة) اشار لنا احد الافراد بالوقوف وهو يحمل في يده (برّادة) وعاء لتبريد الماء يصنع من الطين والفخار تشتهر به مدينة غريان! راودتني افكارا على السريع ربما يريد ان يملأها ماء وللأسف ليس معنا ماء ! لكن بمجرد اقترابه منا قدمها لنا قائلا : تفضل يا حاج خذها عطية! استلمتها وشكرته كثيرا ودعوت لصاحبها بالرحمة حيث تبين لنا ان احد اصحاب الخير احضر لهم عدد من البرادات لتقديمها تطوعا للمسافرين!

كانت لحظة شاعرية تراثية ارجعتني بالذاكرة الى ذلك الزمن البعيد عندما كانت البرادات احسن وسيلة لتبريد الماء في وقتها. استأنفنا رحلتنا عائدين ووصلنا مزده بسلامة الله وكانت اول من استقبلنا ابنتي الصغيرة “نور” قدمت لها البرّادة ففرحت بها وصارت تصيح : بابا جاب لي دربوكة! ..بابا جاب لي دربوكة! لكنها تمعنت فيها فلم تجد ذلك الجلد المشدود لتضرب عليه بيديها الصغيرتين فتعجبت! اوضحت لها من بعد وقلت انها برادة للماء وقمنا بالفور بغسلها ثم ملئت ماء في انتظار ان يبرد ويحل موعد الافطار وفعلا اعادتنا تلك البرادة لتذكر ماض بعيد وشربنا من مائها البارد طبيعيا جميعنا شربات وشربات!

التدوينة “البرّادة”!! …قصة واقعية من رحم الواقع ظهرت أولاً على صحيفة عين ليبيا.



تابعوا جميع اخبار ليبيا و اخبار ليبيا اليوم

0 التعليقات:

إرسال تعليق