إذا سألك أحدُهم من أي بلدٍ أنت.. قل له أنا من بلد فيه اكثرُ من ستة ملايين نخلة، قل لهم أنا من بلد شاطئها طويل والنخيل ُ فيها يُعمّر أكثر من البشر، لا تربط بلدك بأسماء الأشخاص، ولا بما تشهدُه من صراعات واضطرابات، ليبيا فيها عدد النخيل يفوقُ عدد السكان – إذا جزمنا أن تعداد الليبيين أقل من سبعة مليون نسمة – لذا على الأقل تذكر أنك من وطنٍ لايزال فيه نماء وإثمار.
تمتلكُ ليبيا ما يزيدُ عن 6 ملايين نخلة مُنتجة بحسب تقديرات حكومية سابقة، تتوزع هذا النخلاتُ في كل مناطق ليبيا لكن أكثر المناطق وفرةً هي مناطق الجنوب الليبي (شمال خط عرض 29) خاصة الواحات والجفرة ومرزق وغيرها، وفي الساحل أيضاً تتنشر أصناف تمور متنوعة يفوق عددها مائة صنف، وبحسب أرقام منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) فإن حجم إنتاج ليبيا من التمور يفوق 170 ألف طن في عام 2012، ولا يُعد التمرُ والرطب أكبر ما تنتج ليبيا في المجال الزراعي، بل تفيد الارقامُ أن إنتاج محاصيل أخرى كالبطيخ والبصل تفوق التمور كميّةً، وأما التمور فقد بلغت ليبيا أعلى إنتاج لها في الثمانينيات من القرن الماضي عندما بلغت الترتيب السابع عالمياً.
مزارع النخيل الضخمة معظمها في الجنوب الليبي وهي التي تنتج الحصة الأكبر من إجمالي الإنتاج الليبي، أما نخيل الساحل فقد تقلص عددُه وأُهمِل الكثيرُ منه بسبب غلاء اليد العاملة وإهمال بعض الأهالي لنخيلهم حسب الطرق التقليدية وكذلك بسبب انتشار العمران وتقلص المساحات الزراعيّة وأصبح إنتاجها بالكاد يكفي للاستهلاك المحلي.
يقول السنوسي اجلالة الخبير في قطاع التمور وابن منطقة الجفرة المعروفة بتمورها الشهيّة، إنّ “الاستهلاك المحلي للتمور يزدهرُ في مواسم معينة أولها هو شهر رمضان والآخر في موسم الجني”، مضيفاً أنّ “معظم الانتاج مؤخراً تحوّل لإنتاج الدقلة الليبية بسبب إقبال المستهلك عليها، مع ابتعاد الكثير من المزارعين عن إنتاج الأصناف الأخرى كالصعيدي والخضراي والابل وغيرها رغم تنوع الأصناف التي تنمو في ليبيا لكنّ المزارعين يبحثون عن الصنف الأكثر استهلاكاً ويزرعونه وليست أولويتهم التنوع”.
ويشكُو التجارُ المحليون للتمور من عدم توفر فرصة كافية لهم لبيع وتسويق منتجاتهم بسبب منافسة الأصناف المستوردة من ناحية ولعدم وجود أسواق خاصة ً للتمور فقط وما يصاحبها من صناعات توفر فرصاُ أكبر للباعة لتسويق ثمارهم.
ورغم هذا التنوع والغنى في أصناف التمور فإنّك تجدُ في المحلات والأسواق تموراً غير ليبية كالتمور الجزائرية والتونسية وحتى من السعوديّة، أصبحت تنافسُ المنتج المحلي رغن أن هذه الدول تمنعُ دخول التمور الليبية لأسواقها لأسباب تتعلق بانتقالِ الآفات الزراعية.
إن الذي يجلب هذه الأصناف ويغرقُ بها الأسواق لا يبالي بذوق المستهلك ولا بما يصلحُ بمنفعة البلاد بقدر ما تهمه مصلحته وربحه، وكل ذلك رغم تكرار التحذيرات من قبل المختصينَ من انتقال آفات زراعية من دول الجوار بسبب هذا الاستيراد غير المدروس.
النخلة في مواجهة الفقر
النخلةُ هي إحدى الملامح الأصيلة ليبيا، هي طعامٌ وتراثٌ وحكاياتٌ شعبية وتاريخ. صاحبت النخلةُ السكان منذً القدم، أطعمتْهم في سنوات الجوع والحرب حتى أصبحت جزءا من الهوية والتاريخ، التمور هي لٌب المقروض اللذيذ والكعك الحُلو بالتمر، وبها تٌحلّى العصيدة الشهيّة التي تُقدم في الأعياد والمولد النبوي والأفراح وللترحيب بالضيوف، ومن النخلة أيضاً استخرجوا “اللاقبي” و”الرب” وأعلاف الدواب وصنعوا بسعفِ النخلة أوانيهم وأثاثهم، وبالتمر والحليب أكرموا ضيفهم وعابري السبيل فكانت هذه الثمار رمز الجود، هذه الشجرة التي لا تشيخُ هي من يطعم وينفق على مئات البيوت في ليبيا، وكانت ولاتزال سبباً أساسياً لاستدامة التنمية في المجتمعات، فماذا لو غاب النخيل عن مكان نموّه الآن؟ وماذا لو تناقص؟
في بلد منتج للنفط كليبيا، تحتاج البلاد لإيجاد مصادر ثروةٍ بديلة تعوض هذا الاعتماد الكامل على مصدر دخل واحد، ربما لا تستطيع النخلة أن تكون بديلاً لوحدها للبترول لكنها بالتأكيد تصلح لأن تكون منافساً لمنتجات التمور في العالم لو حظيت باهتمام كالنفط ومنتجاته، مع ملاحظة أن لا ضرر من إنتاجها مقارنةً بالأضرار البيئية وغيرها التي تصاحب صناعات أخرى. قد يصعبُ تصديق فكرة أن تتجه بلاد تقوم على النفط لتطوير صناعات أخرى، ولكن لابُدّ لنا أن نُصدّق أنّ إنتاج الغلال – والتمورُ في مقدمتها – يصلحُ لأن يكون جزءاً من خطط التنويع الاقتصادي المفيدة جداً للسكان، كتوفير فرص عمل لخريجي تخصصات متنوعة لطالما أُهملت في السابق كالزراعة والاقتصاد والتخطيط، إضافةً لحرفيي الصناعات التقليديّة، بدلا ً من ازدحام تخصصات معيّنة وكساد تخصصات جامعيّة وحرفية أخرى، وسيُشجع تطوير مشاريع النخيل على تقليلُ معدل الهجرة نحو المدن واستدامة المجتمعات في كل مكان دون الحاجة لمزاحمة الآخرين.
ولتطوير هذا الإنتاج وربما ليس في القريب العاجل ولكن يوماً ما، لا بُد من تشجيع المشاريع الصغرى والمتوسطة لسكان هذه المناطق وتوفير تدريبات وتأهيل يسبقُ ذلك خاصة لفئة الشباب، وتشجيع القروض الزراعية عن طريق تفعيل دور المصرف الزراعي مع وضع ضوابط متشددة وفعالة وحديثة لمراقبتها وقياس جدواها، فقد سبق وفشلتْ فكرة القروض الزراعية من قبل بسبب سوء الرقابة وتفشي الوساطة والمحسوبيّة، ما أدى إلى إهدار الكثير من الاموال على مشاريع وهميّة.
النخيل أيضاً له دور أساسي في تقليل معدلات التصحر وتعرية التُربة، وتعمل النخلة الواحدة كمظلة شمسيّة تمنح الظل وتقلل من أشعة الشمس – خاصة في البلدان الحارة – فتنمو تحتها الشجيرات والنباتات التي لا تحتملُ الحرارة، خاصة وأن النخلة تتأقلم مع قلة المياه أو تأخر الري، ما يعني أنّها يمكن أن تساعد في إنتاج محاصيل أخرى تساعدنا في طريقنا نحو الاكتفاء الذاتي على الأقل على مستوى الأرياف والمناطق الزراعية.
قيمة روحيّة و تاريخيّة
يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام “لا يَجُوعُ أَهْلُ بَيْتٍ عِنْدَهُمُ التَّمْرُ” كدلالة على القيمة الغذائية لهذه الثمرة، وكذلك هي البلاد التي بها نخيل وتمور، لا ينبغي لأهلها أن يصيبهم الجوع والحاجة.
لقد خصت الأديان السماويّة النخلة بالاحترام والسمو وهي الشجرةُ التي كانت شاهدة على ميلاد المسيح عيسى عليه السلام وركنت إليها السيدة مريم العذراء في مخاضها ووردت كثيراً في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
ها قد حان موسم التمور لهذا العام، والنخلة تنتظرُ بفارغ الصبر من يجني عراجينها المُلوّنة المثقلة بأصناف التمور المختلفة، شكراً لمن زرع وجنى وعمِل… وهنيئاً مريئاً لمن أكل وأطعمَ من ثمار وطنه.
التدوينة بلادٌ لا يجوع أهلُها ظهرت أولاً على صحيفة عين ليبيا.
تابعوا جميع اخبار ليبيا و اخبار ليبيا اليوم
0 التعليقات:
إرسال تعليق