لم يكن أذان جامع سيدي رويفع الأنصاري .. يا سيدي بصوته الحنون ونبرته الحزينة هو الذي أيقظني في ذلك الفجر الرائع … ولا أصوات هدير السيارات التي تأتي مخترقة سكون وصمت المدينة النائمة …ولا لفحات البرد القارصة … التي تأتي من فجوة صغيرة في شق بجانب نافذة غرفتي لكنه جرح أخر جديد يضاف إلى ذاكرتي المثقلة أصلاً بالجراح … انسحبتُ ببطء من فراشي اللذيذ ووقفتُ أتأمل الفراغ وأنصت إلى السكون الذي يملأ طرقات مدينتي الخالية … كان صوته يتسلل إلى القلب كالدفء في أوصالي الباردة … كالحنين الممتلئ بالفقدان والتيه والغياب.
الصلاة خير من النوم …. الصلاة خير من النوم .. ثم خطوات متسرعة مستعجلة تتجه صوب المسجد .. وروحي تتجه صوب الصوت المفعم بالحنين … الممتلئ بالبكاء .
يتسلل صوته إلى الأعماق .. كالشعاع الضئيل الهارب من نجم تائه في سماء بعيدة … استيقظتْ أشياء دفينة وقديمة مع عودة الخطوات المتسرعة من صلاة الفجر … جلستُ إلى طاولتي …. أعبث بمؤخرة قلمي الرصاص … أخط كلمات .. كانت كلماتي مجرد ظلال هاربة من ذاكرة مجروحة وقلب يائس ووطن ممزق لا يغادرني … أستحضره وأنا أعبر شوارع مدينتي البيضاء .. تشقني الطرقات .. تسير الأزقة على وقع الخطوات ووقع دقات القلب وتتخللني الدروب والحارات .. ينتشلني صوت المؤذن الحنون .. يرتفع من جامع الشيخ الجليل ” رويفع الأنصاري ” يئن الصوت فأرتعش .. أشعر برهبة المكان وقداسة الأشياء وأنا أخطو في اتجاه مسالك المدينة لا شيء أمامي إلا ملامح وطن مهزوم أراها مرتسمة في وضوح على واجهات المحال وفوق كل شيء .. فلنقطع يا سيدي معاً شوارع المدينة المرتمية باشتهاء في أحضان جبل يظللها بشموخه ويغرقها في رائحة مسك أجداد نبلاء عبروا من هنا .. من الجبل ذات مساء وانتهوا داخل نور المدينة .. وعلى وقع نبض طهر الأجداد أخطو يا سيدي.. أجوس خلالها .. أتفرس وجوه المارة الطيبة .. أقرأ في الملامح حلماً يتراءى من بعيد وفي العيون قلق وحيرة .. وأنت معي أشعر بان قلبك يدق للبيضاء بعنف وقوة .. ويبتسم للأزقة الخلفية ..ويستمع للأناشيد الخفية .. ويقرأ ملامح الشوارع الفرعية .. وتفاصيل المباني .. كانت أنفاس الأجداد تكتب شعراً يتغزل حزناً وخوفاً وقصيدة تهمس بها كل شهيق أو زفير .. ألتفت إليك ياسيدي .. فأجدها تسحبك بقوة نحو سحرها ونافذتها كأنثى باهرة الجمال تتعلق بك .. وأجدك تخذلني .. تتركني وتتوغل في قلبها .. تجلس إلى مقاهي ” شارع العروبة ” .. تتنفس نسائمها وعطرها ..تتحدث إلى أهلها ..تشرب قهوتهم . تشاركهم نكتهم وضحكهم وأحاديثهم عن الوطن المسروق .. تقاسمهم التشبث ببقايا ثورة انبثقت لحظة اشتعال فتيل الحب في مفترق قلب مدينتهم وفي شرايينهم .. تستدعي معهم لحظات صراخهم الممزوجة برشقات رصاص طاغية مهزوم .. تتأمل وجوه شهدائهم التي أصبحتْ ملصقات القلب في شوارعهم .. تشاركهم حتى دموعهم عندما تسقط ساعة شجن ..
تغادرني إليهم وأعود وحيدة أشق شرايين المدينة .
وأحس بنداء بعيد لدمعة أم شهيد تسقط ساعة سقوط الوطن جريحاً ممزقاً بين أيدي قاسية لا ترحم .. ونغمات هاربة لمطر تأجل هطوله إلى حين نستفيق من الغفلة .. وننهض من السبات .. لنغسل عن الوطن حزنه وكآبته و قذارة أبناء غير شرعيين انتسبوا بأوراق صفراء باهتة مزورة إليه يقذفهم البحر تارة وترمي بهم الصحراء تارة أخرى ..أتحسس حروفك ببطء شديد ..وأنت تعتذر وتعلن بأن غيوم الوطن ليست حبلى وواعدة بالمطر .
البيضاء الآن يا سيدي
لا غاز … لا كهرباء … لا تدفئة .. لا نهضة .. لا عمران .. لا شيء .
البيضاء ترتجف حباً وبرداً وخوفاً ..
حكومة لا وجود لرؤسائها .. وبرمان منسي ومجلس لا نواب له ودستور يحاك كمؤامرة بين أروقتها وحلم مؤجل كالفرح ..
لم يكن أذان جامع سيدي رويفع الأنصاري .. يا سيدي بصوته الحنون ونبرته الحزينة هو الذي أيقظني في ذلك الفجر الرائع …ولكن صوت
امرأة عظيمة ..لا أتذكر إلا أناملها الموشومة بتعاويذ الحب وهي تغني .. تترنم
تحصد ..تدرس .. تذري .. تطحن .. تجعله دقيقاً ثم تغربله وتعجن وتطعم كل بيوتات النجع الجائع … وأنا تائهة .. هائمة .. أتلوى صريعة صوت المرأة الذي يرتعش له القلب وتخشع له منابر المدينة .
كمـــــاه ذيبــــله رداه اجحده صاف شاكابه اوحــــــــل
والبيضاء كعادتها تختلس النظر إلى الأفق البعيد وتصيخ السمع.
التدوينة وقفُ عليها الحب ظهرت أولاً على صحيفة عين ليبيا.
تابعوا جميع اخبار ليبيا و اخبار ليبيا اليوم
0 التعليقات:
إرسال تعليق