يندر ان تكون هناك دولة تخلوا من الفساد، وبالمثل يكون أشد إلاما أن تكون دولة أو عدة دول معظمها عربية إسلامية على قائمة الأكثر دول العالم فساداً من مجموع دول العالم التي تربوا على 192 دولة، وإذا تفحصنا تقارير التنمية البشرية والشفافية الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة نجد أن أكثر الدول شفافية والأقل فساداً هي الدول الإسكندنافية، الأكثر تقدماً وديموقراطية والأكثر غنى والأكثر حرية، بالمقابل نجد الدول التي عانت من النظام الشمولي مثل ليبيا وسوريا ومصر والجزائر واليمن والسودان على رأس قائمة الفساد.
يمثل الفساد الإداري وعدم المهنية ذروة سنام الفساد وينتج عنه جميع الأنواع الأخرى مثل الفساد المالي المتمثل في التعدي على المال العام وإستغلال الوظيفة، وإفساد الذمم، والرشوة، والتهرب الضريبي، وعدم دفع إلتزامات الدولة، وتعطيل المعاملات، والإبتزاز وغيرها، ويتسم الفساد في هذه الدول بأنه جماعي يمارس من قطاع كبير في الدولة دون حسيب أو رقيب، وجله من صغار الموظفين، مع غض النظر أوحماية من المسؤولين بالقطاع أو المؤسسة الخدمية.
الفساد كظاهرة جماعية ينبع من سؤ إدارة مؤسسات القطاع العام، بمعنى وجود مئات الآلاف من الموظفين والمسؤولين غير مهنيين لهم معدلات أداء متدنية ويتقاضون رواتب زهيدة، مما يدفع بالكثيرين منهم إلى الحصول على المنافع الشخصية بطرق غير مشروعة مثل تزوير الوثائق، والرشوة، والتنازل عن حقوق الدولة مثل الجمرك والضرائب، وإحتكار صرف العملة وتهريبها، وتزوير نسب الإنجاز بالمشاريع، وبيع أملاك الدولة الثابتة والمنقولة. بالمقابل نجد أن المؤسسات الخاصة أكثر إنتاجية وأكثر إنضباطا وإلتزاما، وأفضل دخلاً، وإذا كان هناك خرق للقوانين فإنه عادة ما يتم عند المؤسسات والشركات الخاصة العارضة وعند الإدارة العليا بها.
ويرجع سبب تدني المهنية وتراكم الكم الهائل من الموظفين في أجهزة الدولة إلى السلوك البدوي القبلي الجهوي الذي يتماهى مع المنظومة الإجتماعية والقبلية وقبل ذلك الأنانية الفردية، مما يجعل المسئولين بإدارات الدولة غير الأكفاء يقومون بتوظيف أهل الولاء من جنسهم، وحيث أن مدة بقاء المديرين قصيرة، يتراكم ألاف الموظفين دون تدريب أو تأهيل أو عمل مهم لهم، وبذلك ينتشر الفساد ويستشري في معظم مؤسسات الدولة. ومن الملاحظ أن جميع الصفقات والجرائم المالية الكبرى، حتى التي حيكت من كبار المسؤولين يقوم بتنفيذها صغار الموظفين بمقابل زهيد، وهذا يؤيد ما قاله على بن أبي طالب “لو كان الفقر رجلا لقتلته”، أما التسريح الجمركي لحاويات فارغة أو مزورة، وإستخراج الجوزات بمقابل وتحويل العملة خارج القانون وتزوير نسب الإنجاز وتمليك ممتلكات الدولة فهي من أعمالهم اليومية لعقود طويلة.
الفساد بأنواعه سلوك غير سوي تبرره ثقافة، ينغمس فيها من لا رادع ديني أو قانوني له، وحيث أن المؤسسات الرقابية ضعيفة سابقا وحاليا، فإن الأمر سيستمر على ما عليه لسنوات لاحقة. إشكالية الفساد في الدول العربية الإسلامية أنها لم تصل إلى توافق ثقافي بين الشريعة والقوانين الوضعية السارية للدولة الحديثة، بمعنى أن الفساد في الدول الغربية واضح المعالم وهو ” الحصول على منافع منافية لقانون الدولة أو المؤسسة” وقوانين الدولة يتم تعديلها والإضافة لها بما يحقق مكاسب الدولة، أما في الدول الإسلامية هناك شعور عند بعض الفرق والمذاهب أن هذه القوانين وضعية لا يستوجب الخضوع لها، ومن ذلك ما أفتى به فضيلة مفتي ليبيا بأن ضريبة الدخل يجب أن لا تكون ملزمة للمواطنين، والسؤال: كيف يساهم الأغنياء في ميزانية الدولة إذا كانت الزكاة تعطى للأفراد، وقس على ذلك تحليل التهريب بدعوى أنه تجارة بين شعوب إسلامية فرض عليها الأجنبي حدود مصطنعة، وجواز الرشوة بأنها هدية، وأن أموال الدولة مستباحة لأنها من بيت مال المسلمين، ناهيك عن التوسع في مبداء الضرورات تبيح المحظورات، حتى وصل بالبعض إلى الحج بالواسطة أو دفع الرشاوي، وتهريب قوت الليبيين ونخر الإقتصاد المحلي بالتهريب لمقدراته، وبذلك فإن إستفحال الأنانية الفردية، وعدم وجود رادع قوي يلجم الحُداق، إضافة إلى غياب الوازع الديني، أو الشعور بمبداء المواطنة الذي يحدد الحقوق والواجبات، يصبح المسلم مُشرعناً لنفسه في قضايا غاية التعقيد أو يستقي الفتاوي عبر البحار لتبرير أفعاله، ولا يعدو أن يكون ألة مادية نهمة تزدريه كل المؤشرات الدولية، وتضعه في أسواء مراتبها.
في مذكرات صحفي ياباني زار القاهرة في أيام حسني مبارك، وتجول في أركان مصر، رأى التناقض العجيب بين سؤ البنية التحتية للدولة والفقر المدقع والغناء الفاحش للأفراد، وفي إحدى الأيام تم دعوته إلى مأدبة عند أحد المسؤولين الميسورين بالإعلام، أوصله سائق التاكسي إلى مقربة من العنوان، ثم ترجل الصحفي على قدميه وهو يكابد بؤس الطريق؛ من تراكم القمامة، وبقايا المباني المتهدمة، ومستنقعات المياه الآسنة وقطع الحديد المتناثرة. ولم دخل بيت مضيفه وجده على درجة عالية من النظافة تتوفر فيه كل ما تجود به المدنية من وسائل الراحة، وكان ضيفا لموائد فاخرة، عندها أيقن الرجل أن ثقافة الأنانية الفردية وعدم الإهتمام بالشأن العام هي التى جعلت مصر في ركب متدني عن الشعوب الأخرى.
هذا المثال يتكرر كثيراً في الكثير من الدول التي عانت من النظام الشمولي، بل هناك أغرب من ذلك أن ألاف الشباب من الليبيين يتحولون إلى مرتزقة يحاربون بعضهم بعضاً بسبب الرواتب العالية التي يغدقها عليهم المسئولون تجار الحروب وأصحاب النعرات القبلية والجهوية، والأغرب من ذلك أن رواتبهم جميعا تأتي من مصدر واحد وهو مصرف ليبيا المركزي. بعد أن وضعت الحرب أوزارها في المنطقة الغربية من ليبيا (وهذا ما سيكون في شرق وجنوب ليبيا)، ورجع المسلحون إلى قراهم، يتسال الجميع لماذا ويلات الحرب والدمار، وفي سبيل من وماذا كانت زهقت الأرواح ويتمت الأطفال.
ليس هناك وصفة سحرية لتغيير ثقافة المواطن بين يوم وليلة، ولكن هناك العديد من الإجراءات التي يمكن تبنيها لمقاومة الفساد وإستئصال جذوره، منها الإهتمام بالمهنية في العمل وفي إختيار كوادر الدولة، والعمل على تدريبهم وتأهيلهم وتعديل رواتبهم، مع التخلص من الترهل الوظيفي بتحويل الكثير ممن لا كفاءة له إلى الضمان الإجتماعي إلى حين حصولهم على عمل، أو إلحاقهم بمشاريع إستثمارية يتحملون تبعاتها، ومنها بيع القطاع العام أو مشاركته مع القطاع الخاص كلما أمكن ذلك، فالكهرباء والماء والنقل البري والبحري والجوي والمصارف ليست من مهام الدولة الحديثة.
إدخال الميكنة من أهم الطرق لمحاربة فساد صغار الموظفين، فالتسجيل للحج بالإنترنت أوقفت التلاعب، والرقم الوطني فضح المزورين وأوقفهم عن حدهم وهم بعشرات الآلاف، ويمكن التوسع في هذا المجال كثيرا وبتكلفة متدنية. في تجربة لبعض المصارف المصرية لحل مشكلة الإزدحام على الحسابات الجارية، تم تركيب ألاف من ألات السحب الفوري في مختلف أنحاء البلاد، مع وضع ضريبة على السحب المباشر من المصرف وعدم وجود ضريبة على السحب من الألة، ذلك الإجراء جعل ملايين من المصريين يتوجهون لإستخراج بطاقات السحب الفوري، ومنهم من لا يجيد القراءة أو الكتابه، وبذلك إختفت ظاهرة الإزدحام على شبابيك المصارف.
إلتزام المهنية في العمل لرفع كفاءة الأداء ومحاربة الفساد ليست من الأمر السهل ولكنها ستبقي السبيل الوحيد لتقدم الدولة ورُقيها.
التدوينة المهنية والفساد الوظيفي ظهرت أولاً على صحيفة عين ليبيا.
تابعوا جميع اخبار ليبيا و اخبار ليبيا اليوم
0 التعليقات:
إرسال تعليق