ليبيا الان

السبت، 19 سبتمبر 2015

سروال وقميص مدني

قلتُ لهم أنني لا أعرف عنها الكثير، وكل ما أعرفه أنها روائية ليبية واعدة، وسألوني من أين هي؟! فسكتُ برهة افاضل بين “بني وليد” مسقط رأسها وبين “طرابلس” مقر إقامتها الحالي، وشعرتُ لحظتها كما لو أنني افاضل بين وادٍ وبين حديقة أو بالأحرى بين “وادي لبلاد” و”حديقة جنان النوار”، وقلتُ في نفسي ربما تكون حديقة من شجر البنسيان والديودونيا وعشب النجيلة وورد الزنبق خير لها، وقلتُ مرة أخرى ربما يكون وادي من الزيتون والشيح والزعتر والشبرم والشقارة واللسلس خير لها، وقبل أن يعيدوا سؤالهم عليَّ أخبرتهم أنها من طرابلس التي تزدان بها.

كنا في مكتبة اليونسكو في سبها، وكان الحضور مختلطاً وهم يسألونني عن الروائية “عائشة ابراهيم” التي كتبت في الصحافة عن روايتي الأخيرة “ضد” والتي ربما كانت أول الأسباب لجلستنا هذه التي سأحدثكم عنها، في حين أخذتْ فتاة من الحضور جريدة كانت أمامها على الطاولة وشرعت تقرأ ما كتبته عائشة تحت عنوان “كيمياء الضد”، ولم تمض لحظات حتى صار الكل صامتاً، أو فلنقل الكل صار مصغياً لهذا التدرج نحو متن الرواية بتراكيب لغوية جد رائعة، وبعد أقل من دقيقة دخل علينا الدكتور / صالح البغدادي ومعه قراءة أخرى عن “ضد”، فأشار بيده من فوق مصافحاً على الجميع ومشى لمكانه بهدوء حتى لا يُشوش على الجريدة، وعلى أول كرسي قريب جلس في صمت كما لو أن صمت المكان قد هداه إلى مقعده وكتم عنا أي حشرجة قد تصدر منه. كنتُ مهتماً بما مع الدكتور صالح، فهو في تصوري سوف يقرأ العمل من زاوية نقدية أكاديمية غير تلك الزاوية التي نظرت منها عائشة، ولا تلك التي قراء منها الناقد والكاتب المسرحي “حمادي المدربي” والذي كان يدير الجلسة، فملتُ إلى ظهر كرسيَّ مستريحاً أكثر بعد أن تأكدتُ أنني سأعود اليوم ومعي كل نقاط الضعف والقوة في روايتي التي هي موضوع الجلسة.

ظلت عيناي يجوبان أرجاء المكان المرصوص بالكتب، وسمعي يلاحق كلماتهم وأرائهم المختلفة باهتمام، حين مرت أمامي كلمح البصر تلك الأيام التي أخذتها في كتابة هذا النص، وكيف كنتُ أكتب دون مراعاة للقواعد التي اثاروها ويثيرونها في فن كتابة الرواية، وكيف كنتُ عشوائياً على طاولتي ولا أفكر، وكيف كانت العبارات تهجم مني على الصفحة ولا تفكر، وكيف هذا النوع من الكتابة الذي لا يفكر، وكيف صرتُ لا  أحب التفكير إثناء الكتابة، وكيف بتُ أشعر أن ما أكتبه هو كلاماً غير معقول، وكيف كان قلمي يحثني وهو تحت يدي بأن أنظر للأمام وأكتب ولا أهتم بمعقولية الكتابة، ثم لما العقل يا ابراهيم وما حاجتك به ؟! فليكتب الآخرون بعقل وليتركوا لك الكتابة الغير معقولة، وكان قلمي يقول لي كلاماً آخر مشابهاً لهذا، ولا اخفي أنني كنت أراه على الصفحة يتقافز دون رادع كما لو أنه بعير غير معقول، وكنتُ أعرف أنني السبب حين رميتُ عقاله بعيداً عن الطاولة وتركته يركض، لاكتشف بعدها أن أجمل نصوصي هي تلك التي تهجم مني على الورقة ولا تفكر، وأكثرها ركاكة تلك التي تنظر في الورقة وتفكر.

حاولت ُ مرات أن أجاري كبار الكُتاب وأفكر مثلهم لعلي أبلغ مبلغهم، لكنني فشلتُ ووجدتُ خلافاً كبيراً بين رأسي وقلمي، واكتشفت أن الاثنين لا يمكن أن يعملان عندي في وقت واحد كما يحدث مع كبار الكُتَّاب، وبالتالي لا أمل في أن أصبح واحداً منهم، ومادام الأمل مفقوداً فلما الخوف يا عزيزي ولما العقل ولما العقال ؟! فذهبتُ واشتريتُ مجموعة أقلام وأطلقتُ سراحهن من العلبة الواحد بعد الآخر ليكتبن لي رواية “ضد” وقبلها رواية “بلقاسم” دون أي مراعاة لفن كتابة الرواية.

لم أخبر مَن كانوا حولي في الجلسة عن شيء من هذا الذي مر بلمحة في خيالي، وكل ما فعلته أنني أبعدتُ عن رأسي كل شيء ووجهته لينصت لكل كلمة تُقال عن “ضد”. فاستمعتُ لما عرضه الدكتور صالح وكان رائعاً، وعرضَ الأستاذ حمادي ما عنده، وألقى الناقد والفنان التشكيلي “خالد بن سلمة” ما في جعبته، وقبل أن ينتهي لقاءنا لم أجد ما أفعل فقمتُ بإلقاء قنبلة داخل الطاولة المستديرة التي نجلس حولها. وقفتُ وسحبتُ التأمينة حتى لا تخذلني قنبلتي ورميتها في الوسط لتصيب الجميع ودون استثناء. حاولتُ ان أكون دقيقاً لتقع في الوسط وعلى مسافة واحدة من الجميع فتصيبهم جميعاً في رؤوسهم، وكنتُ في الحقيقة أستهدف رؤوسهم وليس غير رؤوسهم، فانا لستُ ممن يلقون القنابل لتبتر الأطراف وتُخلف وراءها مبتورين ومعاقين، لالا، كانت غايتي الرأس وتحديداً ما يوجد في مؤخرته من الداخل، ذلك أن في مؤخرة كل رأس توجد دائماً الأفكار العصية على التغيير والتي عادة ما تكون قد تجذرت بحكم الزمن وصارت تتحكم في كل الجسد، وكنتُ أشعر أنه ليس فقط مَن يلبسون بدل عسكرية يملكون القنابل التي تصيب الرأس وإنما حتى مَن يلبس مثلي سروالاً وقميصاً مدنياً يملك قنبلة، بل أن قنبلتي التي تترك الرأس في حاله يتلفت ويعيش وتذهب لتصيب مؤخرته من الداخل ربما تكون أكثر دقة وأقل تكلفة، فسحبتُ من جيبي القنبلة الملفوفة بورقة ونحيتُ التامينة وألقيتها في وسطهم، لينفجر على إثرها نقاش وتتعالى الأصوات بشكل ملفت حتى قيل أن المارة خارج المكتبة قد سمعوا بعضاً منه، وطالب بعض مَن كانوا في الداخل بإعادة إلقاء القنبلة من جديد، وتهيأتُ أنا لأكون هذه المرة بصوت أكثر هدوء وركاحة حتى يسمع القنبلة الجميع ويفهمها الجميع، فعاودتُ وسحبتها من جيبي ووقفتُ لألقيها فيهم بعد أن طويتها في جيب القميص، لكن آخرين طالبوني بأن أتوقف ولا داعي لإلقائها مرة أخرى فكل شيء فيها كان واضحاً وضوح الشمس، ليظهر بعدها مَن هو مؤيد وآخر معارض لفكرة قنبلتي الملفوفة في ورقة، ذلك أن ما في الورقة تراءى للبعض كمن يُسلط دائرة ضوء كبيرة على نصف سبها، في حين رأى آخرون أن الضوء لا يقع على شكل دائرة بل على شكل أشعة متفرقة تستهدف وتفتش في مؤخرة كل الرؤوس من الداخل وإن كان يوجد في هذه الرؤوس سبها أم يوجد فيها قبيلة من قبائل سبها، وكم شعرتُ والنقاش ينفجر حول الطاولة بقيمة القنبلة التي تترك الرأس يعيش ويناقش وتصيب القبيلة التي لا تتركه يعيش ولا تتركه يناقش، وشعرتُ ايضاً بقيمة القنبلة التي يمكن أن يلقيها كاتب من الكتاب في وسط مجموعة أو في وسط مقهى، وبين قنبلة أخرى تلقيها قبيلة من القبائل وسط مجموعة أو في داخل مقهى، وشعرتُ أكثر بالفارق الكبير بين ما يلقيه كاتب داخل مدرج فيه مثقفين وبين ما تلقيه قبيلة على منزل فيه أطفال كما حصل بعد عيد الفطر في سبها، وشعرتُ كذلك كيف أن قنابل الكُتَّاب المكتوبة على الورق تستهدف الفكرة العالقة في الرأس وقنابل القبائل تستهدف الرأس من الرقبة، وكيف أن نصوص الكُتَّاب الورقية تطير وتحوم حول الرأس قبل أن تدخله، وكيف أن قنابل القبائل النحاسية لا تحوم، وخال لي لو أن سبها باعت النحاس وجلبت بثمنه ورق لكانت سبها لا تقل روعة عن “ستكهولم” في السويد، وأكدتُ لمن حولي أنه ما دام في سبها قبائل فلن تبيع قطعة نحاس واحدة ولن تشتري صفحة ورق واحدة.

لا أحب القبائل. ولا أنكر أنني لا أرى فيهن سوى أداة نتنة نبذها محمد عليه السلام لصالح مشروعه واستدعاها القذافي لصالح مشروعه، وما أولئك الذين يستدعونها اليوم إلا ليستدعوا ماض ولى دبره، بل وما حالنا اليوم وحال تونس اليوم إلا كمن صافح القبيلة بحرارة في يوم من الأيام ومَن صفع القبيلة بحرارة في يوم من الأيام.

كانت الورقة التي تلف قنبلتي في جيبي معنونة بـ “عانقته وشعرتُ كما لو أنني أعانق الفن”، وكانت في الحقيقة وجهاً آخر لرواية “ضد” موضوع جلستنا حتى وإن بدى اختلاف في ظاهر العملين، وحين ساءلوني عن أوجه الشبه لم اخبرهم بشيء وكل ما قلته لهم هو إن أردتم أن تكونوا كالتونسيين في تحضركم فما عليكم إلا أن تصفعوا القبيلة على وجهها وتبصقون عليها ثم تركلوها حتى ما تقوم لها قائمة، فابتسموا في وجهي كما لو أن عمال اللنظافة صاروا يجمعون كل قبائل المدينة من الشوارع ويملأونها في سيارتهم ثم يذهبون بها إلى مكب بعيد، لكن في داخلي كان يقين يقول أن المسافة بعيدة وبعيدة جداً بيننا وبين اليوم الذي نملأ في سيارات القمامة كل قبائلنا ونرمي بها إلى مكب بعيد، ذلك أن اجتثاث القبيلة ليس سهلاً كاستدعائها، تماماً كاجتثاث الشر واستدعائه، وحبستُ غصة تبكي سبها في صدري وواريتُ دمعة تحت جفني على سبها، ومع حوالي الساعة الثانية ظهراً انفضت جلستنا التي استهللناها بكيمياء الضد وأنهينها بضد القبيلة، وصفقوا لي بقلوبهم وصفقتُ لهم بقلبي، وحيوني وحييتهم، وعانقوني وعانقتهم، وفي النهاية لا أملك إلا أن اقول شكراً لأصدقاء مكتبة اليونسكو بـ سبها الذين دعوني صباح تلك الاربعاء فجئتهم مستمعاً لما قد يقولونه عن روايتي الأخيرة “ضد”، وشكراً للدكتور “صالح البغدادي” (عميد كلية الآداب) الذي دخل علينا في المكتبة ومعه قراءة نقدية وافية عن الرواية وربما أكبر حتى من الرواية، وطبعاً شكراً بالغليظ للروائية عائشة ابراهيم التي أشارت مؤكدة من مكانها البعيد بطرابلس إلى روايتي الصغيرة والتي بالقطع لا تستحق “نوبل” لكنها قد تستحق القراءة.

التدوينة سروال وقميص مدني ظهرت أولاً على صحيفة عين ليبيا.



تابعوا جميع اخبار ليبيا و اخبار ليبيا اليوم

0 التعليقات:

إرسال تعليق